*(مدينة النجف…. )*…*فصادرات بلدتي مشائخ**وواردات بلدتي جنائز* )…*الجزء الأول…

د. هاشم عبدالله الصالح–

هي النجف…في خاصرتها حضرة الإمام علي…وعلى بعد أمتار منها تستقبلك أكبر مقبرة في العالم…كل أنواع القبور تجدها في هذه المقبرة…

مساحة المقبرة قد تجاوزت العشرة كيلومترات مربعة وبقبور قد تجاوز عددها 6 مليون قبر…فهناك زيادة كبيرة في عدد القبور في السنوات الاخيرة وكل ذلك بفضل التفجيرات الإرهابية التي أخذت تحصد الناس في الأسواق والمساجد والحسينيات…المعدل اليومي لعدد الجنائز ارتفع من 100 في اليوم إلى 200 في اليوم الواحد…ما يرويه متعهدي الجنائز من قصص تجعلك تشعر بأنه يجب تغيير إسم هذا الوادي..من وادي السلام إلى وادي الموت…ﻷنه كلما اقتربت اكثر من هذا الوادي ترى كل شيء من حولك يذكرك بالموت…فأمامك جنازة وخلفك جنازة وإلى جنبك جنازة…تلتفت إلى الدكاكين…فهذا يبيع أكفان…وذاك يطاردك ليطرح عليك بضاعته وهي كشكول لتضعها عند رأس الميت في القبر…وآخر يقترب منك بأدب وهو يمسك تحت ابطه مصحف ليقترح عليك قراءة سورة ياسين لروح من انت متوجه لزيارة قبره… 

أما إذا أتيح لك الجلوس مع الذين يشتغلون في صناعة تغسيل الأموات وحفر القبور…فإذا أنت من أصحاب القلوب الرقيقة فلا تقترب منهم ودر وجهك وأرجع إلى منطقة الحرم وابحث لك عن محل دوردمة (اسكريم) مع الشعرية ومحلول السكر الملون…

من القصص التي تجعلك صامتا إلى حتى ما بعد إنتهاء القصة وكل القصص التي بعدها…جيئ بمحموعة رؤوس لرجال وطلب الأهل دفنهم في المقبرة…وقف الدفان وسأل الأهل بدهشة…وأين الاجساد…هل نحن أمام كربلاء جديدة…سكت الجميع…وتكفل بالجواب عنهم رجل كبير مطرق برأسه وعينيه حمراء لعل ذلك من كثرة البكاء…دموع الحزن مالحة لا تنسكب بل هي تحفر طريقها…

هؤلاء الرجال تم أختطافهم واعيدت رؤوسهم مع أوراق تطلب من الأهل مبلغ 20 الف دولار ﻷستلام أجسادهم…هذا قتل من نوع آخر…حتى الشيطان لم يخطر بباله أن يفعل مثل فعلتهم…جثة مقطعة بالمنشار إلى …قطع…طفلان دون العاشرة رموهم بالنهر وقد ربطت أيديهم معا…تتعجب من مقدار الحزن الذي يمر يوميا بهذه المقبرة…العجيب أن ترى في بعض الأحيان الأهل وهم يسيرون خلف الجنازة من دون بكاء ولا نحيب…يمشون وكأنهم أشباه أحياء…وجوه شاحبة وعيون غائرة وأنفاس متقطعة…

في عصر كل يوم الجمعة تقريبا كنا نذهب مع الوالد إلى المقبرة…هو يقرأ القران ونحن نلعب الضميمة بين القبور..كل واحد منا يختبئ خلف قبر وكان في ذلك فرصة لنقرأ ما كتب على هذا القبر…هذا الحاج..هذا الفقير إلى ربه…هذا الصغير وهذا الكبير..أكثر الكلمات التي كانت تؤثر فينا هي الكلمات التي تكتب بلسان أم بحق ولدها الشاب الذي قتل في الحرب مع الأكراد…أو الحرب مع أيران…

أطرف ما قرأته…كان القبر لشاب في العشرين من عمره…النصف الأول من البيت ممحي…أما النصف الآخر منه…

*(ها هنا ترقد عظامي ليتها كانت عظامك)….*والعجيب أنه يطلب منك أن تقرأ له الفاتحة…

تعرف قبور التجار من حجمها الكبير وبعض الأشجار من حولها…أما قبور العلماء فتعرفها من الأعلام الخضراء المرفوعة عليها وكثرة ما يكتب عليها من آيات قرآنية على جدران القبر…

أما أغلب القبور…فهم من المنسيين..حالهم حالهم المنسيين في الحياة….قبور بالكاد تعرف أسماء أصحابها…ما من أحد يقرأ لهم القرآن…وأكثر الأطفال يلعبون جنب هذه القبور…فلا أحد هناك يقول لك أبتعد والعب هناك…وما عرفوا أن التراب تراب…

*(صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ فأين القبور من عهد عاد 

خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ أرض إلا من هذه الأجساد 

وقبيحٌ بنا وإِنْ قَدُم العهدُ هوانُ الآباء والأجداد 

سِرْ إن اسطعت في الهواءٍ رُوَيداً لا اختيالاً على رُفات العباد 

رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد 

ودفينٍ على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد)…*

وللحديث تتمة…