نظرة في العلم

علي إبراهيم الحاجي-

عندما أنظر إلى كل هذا التقدم العلمي من حولي، الذي يكاد أن يخرج لنا بفتح علمي جديد كل يوم، دائماً ما أتساءل عمّا إن كان ما تفعله البشرية صواباً أم لا، وعمّا إن كانت تدري بالفعل عن نتائج أفعالها أم أنها تسير على غير هدى.

لقد غيّر العلم حياتنا بالكامل، وهذا استنتاج بسيط جداً لمن يقارن الحياة قبل ١٠ سنين فقط من يومنا هذا. ولقد اعتدنا على أسلوب حياة مغاير تماماً عن الفترة التي وُلدنا فيها، حتى ظننا أننا كنا نعيش في تخلف نأكل من حشائش الأرض وننام في كهوف الجبال قبل هذا التطور. إن غالبية الناس يشيدون بهذا العلم العظيم الذي حلّ الكثير من مشاكل البشرية، ولا يزال يعمل على أمل أن يحل المشاكل المتبقية.

ولكني أريد أن أتوقف للحظة لأراجع، هل نحن نبالغ في تمجيد هذا العلم؟ هل يستحق كل هذا القدر من الثناء؟ صحيح أن العلم ومخترعاته قد حلّوا كثيراً من المشاكل التي واجهت البشرية طوال آلاف السنين، كالأمراض القاتلة التي صارت اليوم مجرد أعراض بسيطة تُعالج في المستوصفات، ولكنه في الجانب الآخر أنتج لنا مشاكل أخرى مميتة ليست بأهون من سابقتها. أليست هذه مجرد نقل للمشاكل من مربع إلى مربع آخر، بل وحتى زيادة عليها؟ أظن أن هذه الظاهرة تستدعي التوقف عندها للتفكير في القيمة العظيمة التي نعطيها للعلم، لأن الحكم على الشيء يتطلب نظرة شاملة قدر الإمكان، وليس نظرة جزئية إلى النتائج الإيجابية فقط.

إننا نضفي هذه القيمة للعلم انطلاقاً من عدة معايير. وسوف أحاول، بخبرتي البسيطة جداً التي تعتمد على المشاهدات وليس البحث والدراسة، أن أعيد النظر في هذه المعايير.

أولاً، إن العلم سبب في رفاهية الإنسان.

صحيح جداً، ولكن أي إنسان؟

 هنالك مجموعة من البشر يعيشون في رفاهية أنتجها العلم، ولكن على حساب الأشخاص الآخرين الذين يضطرون للعيش في تعاسة قاتلة من أجل رفاهية الجماعة الأولى. وهنالك جماعة أخرى من الناس صاروا على هامش هذه الدنيا، بل وصاروا عالةً عليها، فلا هم مرفّهين، ولا هم ينتجون ما يرفّه المرفّهين!

هنالك من يقول لي، أن البشر كانوا ولا زالوا على هذا الشكل، فحتى قبل التطور العلمي كانت هناك جماعات قليلة تستعبد الناس لمصلحتهم.

صحيح، وهذا أيضاً اعتراف بأن العلم لم يتسبب في رفاهية البشر، كل ما هنالك هو أنه غيّر شكل هذه المفارقة الظالمة، وغيّر طريقة الاستعباد.

إن كانت الرفاهية غير المسبوقة معياراً للحكم على العلم، فلا أظن أنه يستطيع اجتياز هذا الاختبار.

ثانياً، العلم عالج الأمراض التي كانت تفتك بالبشر.

لقد استطاع الإنسان أن يوظّف العلم الطبيعي في علاج الكثير من الأمراض القاتلة، حتى صار بعضها مجرد مرض بسيط يُعالج في المستوصفات الصغيرة. وبهذا أنقذ الكثيرين من الموت.

ولكن من جانب آخر، هناك الكثير من التهديدات التي أنتجها العلم والتي تحدق بالبشر كل يوم لتفتك بهم. فعلى سبيل المثال، يتسبب التلوث الطبيعي في وفاة أعداد كبيرة سنوياً في الصين وحدها. وأيضاً هناك مشكلة الاحتباس الحراري وتغير المناخ التي بدأت تتسبب في تحويل الكثير من المساحات إلى مساحات غير صالحة للعيش فيها. وهناك أيضاً خطر الإشعاعات والموجات التي تعبر من خلالنا كل يوم وكل لحظة والتي لها نتائج سرطانية على أجسادنا. ولا ننسى خطر المفاعلات النووية المنتشرة على سطح الأرض والتي تتسبب -كما حدث بالفعل- في أعداد ضخمة من الوفيات والإصابات الخطيرة في حالة وقوع خطأ بسيط فقط.

ثالثاً، العلم في خدمة الإنسانية.

أعتقد أن هذا مجرد ادّعاء سخيف من المجاميع العلمية. من المفترض أن يكون العلم في خدمة الإنسانية، ولكن الواقع -للأسف- يقول بعكس ذلك. هنالك مشكلة في تحديد الأولويات على هذا الكوكب، فهل من المعقول أن تُصرف الأموال الطائلة من أجل البحث عن المياه والحياة في المريخ، وعلى أبحاث لإيجاد أكوان أخرى افترضنا وجودها إلى جانب هذا الكون، بينما يموت الناس جوعاً وعطشاً في إفريقيا؟ أليس من الأولى -إن كان العلم لخدمة الإنسان- أن تُصرف هذه الأموال لحل مشكلة الجائعين والعطاشى أولاً، ثم يُقدم الباقي منها لمن يريد البحث عن كون موازٍ لكوننا؟

إن العلم ليس في خدمة الإنسانية، فالأصحّ أن نقول أنه لا يخدم سوى فضول الإنسان، الفضول الذي يواجه مشكلة في تحديد الأولويات، كما يخدم سياسات الدول التي تسعى لدفع عجلات الاقتصاد ولو كان على حساب الطبيعة وحياة الإنسان.

قد يقول البعض أن هذه السلبيات إنما هي نتيجة للشر الموجود في الإنسان، وأن العلم هو مجرد أداة يستطيع استخدامها في الخير والشر. وهذا صحيح فقط إذا افترضنا أن التقدم العلمي ليس له آثار ذاتية لا علاقة لها بتصرفات البشر. ولكن الواقع أن التقدم العلمي يتسبب في كثير من النتائج المدمرة بغض النظر عن استخدامنا له في الخير أو الشر. إن المحركات وأجهزة التكييف التي تنفث كميات هائلة من الحرارة -مثلا-، لا تفرّق بين استعمال الإنسان لها في الخير أو الشر، لأننا لا نستطيع أن نستفيد من هذه الأجهزة إلا بالتضحية بأشياء أخرى سواء أردنا استعمالها في الخير أو الشر. وفي هذه الحالة، لا نستطيع إلا أن نوازن بين الفوائد وبين الخسائر الناتجة عن استعمالنا للآلة، لنرى إن كانت الفوائد تستدعي فعلاً كل تلك التضحيات. 

ومن هنا تبرز مشكلة أخرى في التطور العلمي، وهي أننا لا نستطيع إحصاء جميع الخسائر الناتجة عن اختراع ما، وفي كثير من الحالات لا نستطيع التنبؤ بالأخطار المدمرة لاستعمالنا ذاك الاختراع. قد يغفر للسابقين جهلهم، ولكن ما الذي يغفر لأولئك الذين يلومون من قاسى مرارة التطور العلمي فصرخ في وجه الجميع: “هل كان الأمر يستحق كل هذه التضحيات؟!”. 

إن كنا نتوقع شيئاً من العلماء اليوم، فإننا نتوقع منهم أن يجدوا حلاً للمشاكل التي سببها التطور العلمي. ولن نصفق لهم حتى وإن وجدوها، حتى نتأكد أن هذه الحلول لن تكون أخطر علينا من سابقتها. 

وبعد كل هذا، وبعد أن عرفنا أن العلم نفسه لا يدعي لنفسه أنه قادر على كل شيء وأنه يستطيع التنبؤ بكل شيء، هل من المعقول أن نضع نحن كامل ثقتنا فيه، وأن ننظر إليه بكل هذا الانبهار؟

لا أظن أن هذا الحماس كله يعدو كونه حماس المراهق الذي يظن أنه قد ملك العالم كله لمجرد أنه استطاع أن يقود سيارة في منعطف خطير 🙂

2016, May 11

فكرة واحدة على ”نظرة في العلم

  1. مساكم 🌹 أعزائي

    بودي التعليق على موضوعين جميلين طرحا هنا ولكني سأبدأ بموضوع الأستاذ علي الحاجي المتعلق بنقد ادعاء منفعة وخيرية العلم. فقد لفتني لما فيه من جرأة في محاولة نقد بعض المسلّمات، وهذا ما لا يجرؤ غالبية الناس على نقده عادة.

    مع ذلك فلدي بعض الملاحظات المنهجية وأتمنى أن يتسع صدرك لها.

    ١- عنونت مقالك بعنوان “نظرة في العلم”، ولكنك ناقشت، كما يبدو لي، تأثيرات “الثورة الصناعية” على حياة البشر وليس تأثيرات العلم. لأن الموضوع يتناول أثر التقنية الحديثة (اختراعات البشر وابتكاراتهم) خلال المائة وخمسين سنة الأخيرة فقط.
    ورغم أن العلم والتقنية وُجِدت بوجود البشر، ابتداءً من أول عشبة عرف الإنسان فائدتها وتداوى بها وأول رمح صنعه ليصيد به، إلا أنك خصصت التكنولوجيا ما بعد الثورة الصناعية بحديثك ونقدك. وأعتقد كان من الأنسب لو أنك وجهت موضوعك إلى أثر الثورة الصناعية بدلاً من أنت تجعل عنوانه عاماً بهذا الشكل كي لا تظهر كمعادٍ للعلم والتقنية مطلقاً.

    ٢- انطلقت في حديثك من بعض المفاهيم (الخيّرة) تجاه البشر كتحقيق الرفاهية للبشر، علاج أمراض البشر، خدمة الإنسانيّة، وهذا يجعلني أستنتج أن حديثك، عن صواب العلم أو خطئه، استحقاقه للثناء والتمجيد أو عدمه، ينطلق من فكرة محورية الإنسان. بمعنى أن الخير هو ما ينفع الإنسان والشر هو ما يضره. والصواب هو ما يحقق له الرفاه والسعادة والخطأ هو ما يسلبها منه. وهذا لا بأس به في ذاته ولكنه ينتقل بنا للنقطة الثانية وهي

    ٣- إذا كنا نتحدث عن الإنسان كمحور للحكم على الخير والشر أو الصواب والخطأ، فهل يكفي أن نذكر بعض الأمثلة “الكيفية” Qualitative على أشياء مختلفة تتعلق بالإنسان لإثبات وجهة نظرنا؟ ألا يجب أن تكون مقارنتنا كمية Quantitative أيضاً، حتى تثبت ما نريد إثباته؟ فنقارن مثلاً بين عدد سكان البشر في الماضي والآن، أو معدل العمر البشري سابقاً وحالياً أو نسبة وفيات الأمهات والأطفال أثناء الولادة قبل الثورة الصناعية وبعده، حتى تكون أحكامنا منهجية؟

    ٤- شخصياً، يبدو لي أن الثورة الصناعية كانت خيراً عظيماً بالنسبة للإنسان وربما بالنسبة للجراثيم التي تعيش بأمعائه والحشرات التي تعشش في منزله، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى عدد آخر كبير من الكائنات الحية التي انقرضت ابتداءً من طائر الدودو الضخم وانتهاءً بفيروس الجدري (إذا اعتبرناه كائناً حياً). فلو أنك اعتمدت معياراً آخر للخير والصواب، على سبيل المثال، ما ينفع أكبر عدد ممكن من الكائنات الحية. فإنني أعتقد أنك كنت ستنطلق في رحلة فلسفية أكثر إثارة وتشويقاً.

    تحياتي 🌹

    إعجاب

التعليقات مغلقة.