التَّـدثُّـر بعباءة التخصص 

حسن سلمان الحاجي-

١٣ مايو ٢٠١٦

في شهر يناير عام ١٩٩٣م حزمت حقائبي متجهاً إلى عاصمة البترول، مدينة هيوستن في ولاية تكساس، للعمل مع شركة تطبيقات حاسوبية متطورة في مجال أنظمة التحكم بالعمليات الصناعية.

تقابلت مع نائب رئيس الشركة، شالرز جونستون، والذي حوّل فكرة أنظمة التحكم بالمتغيريات المتعددة

 (Multi-Variable Control System)

التي ابتكرها عمه (أبو زوجته) إلى برامج كمبيوتر عبر تطبيق معادلات رياضية حديثة يتم تطبيقها للتحكم في العمليات الكيميائية في مصافي النفط والبتروكيماويات.

قضيت مع شالرز أسبوعين قمنا فيها بتحليل المعلومات وإستخراج أنماط رياضية تطابق عمليات المعمل لإحدى منشآت شركة أرامكو السعودية.

في أحد الأيام وخلال الحديث معه على وجبة الغداء تقدمت إليهم بهذا السؤال: شالرز، ما هو تخصصك ومن أيّ جامعة تخرجت؟

هنا جاء الجواب الصاعق: حسن، هل أنت مستعد لسماع هذا؟ أنا طبيب أسنان!!

نعم طبيب أسنان كتب برامج تطبيقية متقدمة لا تزال تُستعمل في معظم معامل مصافي النفط والبتروكيماويات في أنحاء العالم إلى يومنا هذا.

ولا عجب من ذلك إذ أن أكبر شركة للبرمجيات، شركة مايكروسوفت، أنشأها بيل قيتس، الذي لم يكمل دراسته المنهجية في الجامعة. بل إن معظم المخترعات والإكتشافات جاءت من فنيـين وهواة عملوا في الكراجات وغرف النوم ولم تأتِ من رحم الجامعات ومراكز البحوث والتي يقودها علماء متخصصون! 

حتى أكبر النظريات العلمية في الفلك، كنظرية الانفجار العظيم، لم تأتِ من مراكز البحوث في ناسا الأمريكية (NASA) ولا من وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) بل جاءت بالصدفة عبر اثنين من شركة بل لابز، كانا يذهبان للمجسّات الاستشعارية (Antenna) التي تلتقط الإشارات لتنظيفها من فضلات الطيور، ظناً منهما أن الفضلات هي سبب الضوضاء والتشويش حتى اكـتشفا أن أزيز الموجات الراديَويّة (Radio Waves) هو من آثار الإنفجار العظيم!

وتم تكريمهما بجائزة نوبل عام 1978م لهذا الإكتشاف الكبير.

حتى العلماء المختصين في مجال معيّن لم يتقيّدوا في الإنتاج المعرفي في حدود تخصصهم، بل قفزوا على تخصصات أخرى وناقشوا وفندوا نظريات قائمة واستبدلوها بنظريات جديدة ورائدة، فمثلا الدكتور ليونارد ميلدوناو المتخصص في علم الفيزياء، والذي شاطر ستيڤن هوكنغ في تأليف أهم كتابين له (تاريخ مختصر للزمن والتصميم العظيم) ألّف كتاباً في علم النفس سمّاه (ما دون الوعي)، ناقش فيه نظريات كبار علماء النفس كفرويد وكارل يانق، وفنّد بعضها وطرح نظريته الخاصة.

 كذلك العالم مات ردلي المتخصص في علم الحيوان طرح كتاباً في أكتوبر ٢٠١٥م سمّاه (تطور كل شيء)، وضع فيه نظريته في تطور جميع الأشياء بما فيها الإقتصاد والتجارة والتعليم والشخصية البشرية والحضارات والأديان وغيرها، وفنّد نظريات لفلاسفة سابقين و وضع نظريته الخاصة وطرح أدلته العلمية لإثباتها.

الأمثلة على هذا النوع من القفز بين العلوم لا تكاد تُحصى، بل إن السائد حالياً في المجالات الأكاديمية هو محاولة خلق بيئة تزاوجية بين العلوم لكي تُـنـتِـج علوم جديدة غير مسبوقة، فجهاز الليزك مثلا والذي انتشر بشكل واسع في أرجاء العالم لتصحيح عيوب البصريات، والتي عانت منها البشرية لآلاف السنين وأدت إلى عمى الملايين من الناس، جاء نتيجة لتزواج العلوم (علم الفيزياء والحاسوب والكهرباء والطب). بل حتى مخترع أشعة الليزر نفسه، والذي كان يحاول إيجاد أشعة تشطر أشعة الضوء من باب الترفيه العلمي فقط ودون هدف محدد، لم يخطر في خياله ولا أحلامه اليقظة أن هذه الأشعة سوف يحوّلها آخرون في تطبيقات عملية تنفع الإنسانية في شتى مجالات الحياة من علاج الأمراض إلى حفظ المعلومات. 

لا تجد في الأوساط العلمية والأكاديمية من يعترض على عالم أو أحد الهواة لطرحه نظريات جديدة أو نقاشه في نظريات علمية خارج تخصصه، أو استخدامه لأدوات معرفية جديدة خارج تخصصه وإسقاطها على مواضيع تخصصية، بل من يقوم بهذا النوع من الإعتراض يُعرّض نفسه للسخرية والإستهزاء.

النقد والنقاش في الأوساط العلمية يدور حول الفكرة والنظرية المطروحة، بغض النظر عمن طرحها، سواء كان من أصحاب الإختصاص أو لا، فإما تصمد نظريته أمام الدليل المنطقي والشواهد العلمية أو تنهزم.    

   

ليس المراد هنا التقليل من قيمة العلماء المتخصصين ودورهم الفعال في إنتاج المعارف وتمحيص التجارب، فهذا أمرٌ مفروغ منه، وإنما التأكيد على أن طرق التَّـعلـم ونيل المعرفة متعددة، ولا تقتصر على الدراسة المنهجية، بل قد تكون الدراسة المنهجية عائق للتفكير والإبداع والإبتكار، لأنها تُقدم العلم على شكل قوالب تحد من الخيال والتفكير العميق. من هذه الفكرة انطلقت جامعات ومدارس جديدة تختلف عن المدارس التقليدية، مثل مدرسة مونتيسوي والتي لا يوجد فيها مناهج ودرجات وإختبارات وتـقـيـيم، بل تعتمد على التفكير والخيال والإستكشاف بالحواس والتجارب والتعاون بين الطلاب، ومنها تخرج كبار المبدعين مثل مؤسـسي ويكيـبـيديا وقوقل وأمازون. 

العلم مثل المحيط لا حدود لشواطئه، ولا يوجد طريق واحد فقط للوصول له، كما لا يوجد إناء واحد أو قالب معيّن للغرف من مائه والإستفادة من خزائنه، وهو ليس حكراً على أحد، ولا يُمنع من يريد الخوض في أعماقه وسبر أغواره بحجة عدم التخصص في عالم البحار! 

من يتدثر بعباءة التخصص ليمنع الآخرين من الإقتراب إلى بحيرته الخاصة خوفاً عليها من الطفيليات، كما يحب أن يسميهم، ويقف حامياً لها مانعاً مياه الأنهار والبحار المتجددة من الوصول إليها، فلن يلبث طويلا قبل أن يجد بحيرته آسنة، يموت فيها المرجان وتكثر فيها الطحالب ويهرب منها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 

————–

*مـنٰـتـدى الـقـراء

فكرتان اثنتان على ”التَّـدثُّـر بعباءة التخصص 

  1. إن المقال/الموضوع أعلاه؛ “التدثر بعباءة التخصص” والذي كتبه أ. حسن الحاجي ينطوي على أهمية بالغة في عالم الإدارة والقيادة. وقد نجح صاحب المقال مشكورًا بطرقه ولفت الانتباه له؛ من خلال حشد المعلومات والبراهين ذات الصلة…
    لكنه للأسف لم يوفق في تحديد المعايير الحاكمة، والمنهجيات الموجهة، والحدود الفاصلة بين التخصص والمتخصص وغيرهم من القائمين على الأعمال.
    نوافق الأخ الكريم بما ذهب إليه من ضرورة إبقاء السماء مكشوفة، والنوافذ مشرعة، والأبواب مفتوحة بين العلوم والمعارف… إلخ، والقائمين عليها.
    هذا الأمر صواب وصحيح من الناحية العلمية النظرية، أما من الناحية العملية التطبيقية (وبالذات في عصر تفجر العلوم وتشعبها وتعقيداتها… إلخ) لا بد له من منهجة وتكييف يتلاءم مع الحاجة التفصيلية في واقع الناس… وإلا؛ ما سنخرجه من الباب، سيدخل لنا من النافذة… ومن هنا لا بد من معيرة ومنهجة دورية تخضع للمراجعة كل مدة من الزمن، تتلاءم مع سرعة واتجاه (Velocity) السوق…
    وحتى لا أكون ممن ينهى عن أمرٍ ويأتي مثله أضع بين يديكم مثالًا (مجرد مثال) واقعيًّا معاشًا عما أقصد من معيرة ومنهجة.
    لو أتينا لشركة إركسون بالدليل المعرفي لإدارة المشاريع المعياري (PMBOK Guide) وطلبنا منهم التزامه في إدارة مشاريعهم لاعتبروا هذا ضربًا من العبثية… ولكن يقوم الخبراء المتخصصون (إداريًّا وفنيًّا) وليس غيرهم بتكييفه إلى منهجية تتلاءم مع مشاريع مجالات الاتصالات التطبيقي، ومن ثم تبنيه من قبل المنظمة على شكل نموذج (Model).
    مرة أخرى؛ كل الشكر للأخ أ. حاجي على شجاعته في طرق هذا الموضوع الحساس والمهم في عالم الإدارة والقيادة.
    عزام زقزوق “أبو ليث”.

    إعجاب

    1. الشكر موصول لك أخي العزيز على القراءة والإضافة القيمة والمهمة وأوافق الرأي فيما ذهبت إليه من أهمية وضع معايير حاكمية
      شكراً لك مجددا أستاذ عزامه

      إعجاب

التعليقات مغلقة.